بعد وصول الدولار الأمريكي في سوريا إلى 5000 ليرة سورية تراجع خلال مدة ليست طويلة إلى مستوى 3165 ليرة للدولار الواحد، مسجلاً بذلك هبوط بنسبة قياسية وبوقت قياسي. فبالرغم من أن معظم التوقعات كانت تتمحور حول حدوث انهيار اقتصادي في سوريا، تراجع الدولار وبدأ بصنع اتجاه جديد بزخم قوي.
العقوبات الغربية وقانون قيصر لم يتم رفعهم، والاقتصاد المدمر مازال مدمر. والعملية الإنتاجية وحجم الصادرات مازال منخفض، والعجز يُرهق خزينة الدولة السورية، وكمية الدولارات التي تدخل سوريا قليلة جداً. وبالتالي جميع المؤشرات تدل على انهيار أو على الأقل عدم تحسن بقيمة الليرة السورية، فكيف حدث هذا الارتفاع بقيمة الليرة السورية والتراجع بقيمة الدولار؟
اللعب على مبدأ العرض والطلب:
كل شيء في هذا العالم يتم تداوله بين الشراء والبيع. هو قطعاً يخضع في سعره لقانون العرض والطلب، وبالتالي فجميع العملات بما فيها الدولار الأمريكي والليرة السورية تخضع بقيمتها الحقيقة لقانون العرض والطلب. وهنا تمحورت الإجراءات المعلنة والغير معلنة. فالحكومة السورية بإمكانها رفع قيمة الليرة السورية باتباع طريق من اثنين، زيادة كمية القطع الأجنبي وخاصةً الدولار في السوق السورية. أو تخفيض وجود الليرة السورية في السوق السورية. وبما أن زيادة وجود الدولار هو أمر مستحيل في ظل الظروف الحالية بسبب العقوبات الأمريكية وقانون قيصر، فبدأ العمل على تخفيض وجود الليرة السورية في السوق، من خلال محاولة حجز الليرة السورية في البنوك ومنع المودعين من سحب أموالهم بشكل غير مباشر وذلك بإصدار قانون يفرض سقف للسحب اليومي من البنوك في سوريا. حيث حدد المصرف التجاري السوري وهو أكبر مصارف سوريا عن أن الحد الأقصى للسحب اليومي في سوريا من كل فروعه هو 15 مليون ليرة سورية فقط. وتم أيضاً تحديد سقف لكمية الأموال التي يُسمح بنقلها بين المحافظات فلا يُسمح للشخص بنقل كمية أموال تتجاوز قيمتها 5 مليون ليرة سورية. إلا في حال وجود تصريح رسمي بأن نقل الأموال صادر عن عمل مُرخص.
هذه الإجراءات كانت فعالة. ولكنها لم تثمر بالنتائج المطلوبة في فترة تعتبر حساسة جداً بالنسبة للدولة السورية بسبب اقتراب الانتخابات. وبالتالي تحتاج بها إلى نتائج أفضل وأسرع بغض النظر عن الوسيلة والتأثير على المدى البعيد. فبدأ العمل على تخفيض الحاجة إلى الدولار في سوريا وكان أول القرارات بهذا السياق هو منع استيراد وجمركة الهواتف المحمولة. الأمر الذي أدى لارتفاع غير مسبوق بأسعار الهواتف المحمولة في سوريا ولكنه خفض الطلب على الدولار وبالتالي خفض سعره نسبياً.
الإجراءات الغير معلنة لتخفيض قيمة الدولار الأمريكي:
حساسية هذه الفترة احتاجت نتائج أكثر من التي حصلت عليها الحكومة. وهنا بدأت الإجراءات الغير معلنة، فبدأ العمل أكثر على عرقلة السحوبات المصرفية. وتم تخفيض السحب بشكل غير معلن إلى مستويات منخفضة جداً يصل بعضها إلى 200 ألف ليرة في اليوم. الأمر الذي خنق الاقتصاد تماماً في بعض المحافظات السورية. فأصبح التجار عاجزون عن تمويل متاجرهم بالسلع. الأمر الذي أدى لفقدان بعض السلع من الأسواق السورية. ولكنه خفض سعر الدولار. وبالإضافة لذلك توسعت عمليات المداهمة لشركات الصرافة، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الدولارات لشركات مرخصة بحجة أنها تستخدمها بالمضاربة. مع العلم بأن الجهات التي نفذت أمر المداهمة والمصادرة لم تقدم أي دليل حقيقي على أن هذه الشركات ضاربت على سعر الصرف. كما بدأ العمل أيضاً على عرقلة نقل الأموال بين المحافظات حتى بالنسبة للشركات المرخصة العاملة في قطاع الصرافة. فتمت مصادرة كمية كبيرة من الأموال كانت تنقلها شركات صرافة مرخصة بحجة أنها تتجاوز الحد المسموح بنقله. الأمر الذي أثر على عمل شركات الصرافة بشكل ملحوظ جداً. وقلل وجود الليرة السورية الممنوع التعامل إلا بها في الأسواق، وبالتالي ارتفعت قيمة الليرة السورية.
الدولار انخفض ولكن مستوى المعيشة لم يتحسن:
إجراءات قانونية وغير قانونية تم اعتمادها لتخفيض قيمة الدولار بهذه السرعة القياسية. ولكنها لم تؤدي إلى تحسن بمستوى معيشة المواطن. فمن السهل التأثير على سعر الصرف عندما يكون المهم هو تخفيض السعر بغض النظر عن النتائج. ولكن لا يمكن بناء اقتصاد حقيقي بإجراءات تقيد الحركة الاقتصادية وأحياناً تخنقها. فالاقتصاد يُصنع بالبناء وليس الهدم، وبدعم كافة شرائح المجتمع وليس صنع الإنجازات على حسابها.