الانهيار الأخير في قيمة الليرة السورية وصل بها لمستوى الـ 5000 ل.س مقابل الدولار الواحد، الأمر الذي دفع أسعار السلع والخدمات في سوريا للارتفاع بشكل جنوني، لترتفع معها أصوات السوريين معبرةً عن رفضها التام للحالة الاقتصادية التي وصلت لها البلاد، وبما أن حالة الاستياء الشعبي في سوريا أصبحت أخطر من أن يتم تجاهلها، خاصةً في فترة تعتبر حساسة جداً بالنسبة للسلطة في سوريا، اتخذت الحكومة عدة إجراءات ربطت بينها وبين هبوط سعر الدولار مقابل الليرة السورية، فما هي هذه الإجراءات؟ وهل هي السبب الفعلي لهبوط الدولار وتحسن قيمة الليرة أم أن للحكاية وجه آخر؟
بدأ انخفاض سعر الدولار في سوريا بالتزامن مع قرار الحكومة القاضي بإيقاف جمركة الهواتف المحمولة الجديدة، والذي تلاه مباشرةً قرار إيقاف استيراد الهواتف المحمولة، وبهذين القرارين بدأت إجراءات الحكومة التي جاءت كجزء من سياسة اقتصادية تقشفية تم تبنيها بين ليلةٍ وضحاها تعتمد على إيقاف استيراد السلع الغير ضرورية (من وجهة نظر الحكومة) بهدف تقليل الطلب على الدولار بحسب مزاعم المصادر الحكومية التي تحدثت عن القرارات الصادرة، وتبع قرار إيقاف الاستيراد تدخل أمني في أسواق الصرافة بهدف الضغط على شركات الصرافة والحوالات المالية، وبحسب مصادر حكومية فإن الإجراءات شملت تكثيف التحرك الأمني على الحدود السورية اللبنانية بهدف ضبط الحدود ومنع عمليات التهريب بين البلدين.
لم تقابل إجراءات الحكومة برضى شعبي بالرغم من تحسن سعر صرف الليرة، لأن تحسن الليرة لم ينعكس على أسعار السلع والمواد الغذائية التي ترتفع مع ارتفاع الدولار ولا تنخفض مع انخفاضه، كما أن قرار إيقاف استيراد الهواتف المحمولة دفع أسعارها نحو مستويات جنونية، ليصبح بذلك امتلاك هاتف محمول يعتبر حلم بالنسبة للمواطن السوري.
هل إجراءات الحكومة هي سبب تراجع سعر الدولار وتحسن قيمة الليرة؟
من المعروف لدى المختصين بالأسواق المالية بأن أسعار العملات دائماً تخضع للتذبذب أثناء تحركها باتجاه معين، فمثلاً إذا كان الاتجاه العام للسعر صاعد فسوف يسجل هبوط ببعض الفترات المؤقتة، ويسمى هذا الهبوط “هبوط تصحيحي”، ولو كان الاتجاه العام للسعر هابط فسوف يسجل بعض الصعود أحياناً، ويسمى عندها “صعود تصحيحي”، ولذلك فمن المؤكد بأن الاتجاه العام الصاعد للدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية سوف يمر أحياناً ببعض التذبذب والهبوط الذي يسبق الصعود، فمثلاً عندما كان سعر الدولار 2200 ليرة هبط إلى مستوى 1850 ليرة وبعدها استكمل الصعود حتى وصل لمستوى 3500 ليرة، وبعدها هبط إلى مستوى 3000 ليرة ليعود بعد ذلك للارتفاع مسجلاً قمة جديدة عند مستوى 5000 ل.س.
الهبوط التصحيحي أو التحسن الجزئي هو من أساسيات المضاربة بالأسواق، ومن أبرز أسباب حدوث هذا التحسن في سوريا وصول حيتان المال والمضاربة لمرحلة جني الأرباح، فبدأت عمليات بيع للعملة الصعبة بشكل محدود جداً، بالتزامن مع أخبار وإشاعات وبعض الإجراءات التي تهدف لمنح شعور وهمي بأن الاتجاه العام والسلوك السعري سوف يتغير، دافعين بذلك من يملك رأس مال أو مدخرات (عملة صعبة أو ذهب) لبيعها خوفاً من انخفاض أسعارها، وبالتالي يشترونها هم بأسعار منخفضة قبل دفعها للارتفاع من جديد، ومن أسباب افتعال هذا التحسن أيضاً هو امتصاص حالة الاستياء التي وصل لها القسم الأكبر من الشعب السوري الذي لم يعد يملك شيء، ولكن هذا التحسن المرحلي لم يدوم في السابق ولن يدوم الآن، لأنه لا يستند لإصلاحات اقتصادية حقيقة ومنطقية، فمع استمرار الفساد الإداري والمالي بالتحكم بمؤسسات الدولة وقراراتها، وخاصةً القرارات المتعلقة بالأمور الاقتصادية، لن يكون هنالك تحسن حقيقي ومستمر بقيمة الليرة السورية.
ولذلك فإن الهبوط الأخير بسعر صرف الدولار هو هبوط تصحيحي من المنطقي حدوثه، خاصةً بعد الصعود المتواصل والكبير الذي سجله سعر الدولار بانتقاله من سعر 3000 ليرة إلى سعر 5000 ليرة سورية.
من الممكن أن تكون الإجراءات الحكومية الأخيرة دعمت هذا الهبوط بشكل جزئي، ولكنها ليست السبب بحدوثه، فكمية الهواتف المحمولة المستوردة في سوريا لا تشكل نسبة كبيرة من كمية السلع المستوردة، وبالتالي لا يمكنها التأثير على سعر الصرف بهذا الشكل، أما بما يخص عمليات التهريب وضبط الحدود، فإن المهربون الكبار في سوريا معروفون جيداً بالنسبة للحكومة السورية والشعب السوري، وبالرغم من ذلك لم يتم اتخاذ أي اجراء بحقهم (لا سابقاً ولا الآن ولن يتم مستقبلاً فهم بعيدون تماماً عن أي مساءلة قانونية لأسباب يعرفها الجميع) مع أنهم من أبرز المضاربين على سعر الدولار ومن أكثر المستفيدين من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالمواطن السوري.
وبذلك فإن جميع المؤشرات تدل على أن هبوط الدولار لمستوى 3940 ل.س هو مجرد استراحة بسيطة قررها حيتان المال ومكاتب المضاربة الغير مرخصة والمحمية من قبل جهات معروفة جيداً، وكما حدث سابقاً سوف يتكرر السيناريو ويعود سعر الدولار للارتفاع بدعم نفس الجهات التي تطمع بما تبقى من أموال الشعب السوري.
صفقة وراء الكواليس
وفي سياق متصل تداول بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي معلومات تفيد بأن رجل أعمال سوري مدعوم قام باستيراد كمية كبيرة من الهواتف المحمولة قبل أيام من صدور قرار منع الاستيراد والجمركة، ليقوم بعدها برفع أسعار الهواتف المحمولة لديه بأكثر من 50%، الأمر الذي أدى لردود فعل غاضبة لدى السوريين معتبرين بأن قرارات الحكومة دائماً تأتي لدعم المحتكرين، وبأن الانقسام الطبقي في المجتمع السوري يتم تعزيزه بخطوات منهجية ومدروسة ومقصودة، فبعد حرمان المواطن السوري من أبسط رفاهيات الحياة، بدأ حرمانه من أبسط أساسياتها، وبعد أن أصبح شراء منزل أو سيارة حلم للسوريين، سوف يصبح شراء هاتف محمول حلم أيضاً، فمن الواضح لدى السوريين بأن احتكار الاستثمار في سوريا لصالح جهات معينة، أدى لنتائج كارثية على معيشة المواطن، فقد قضى على المنافسة في الأسواق، وجعل معيشة السوريين ومصيرهم بقبضة بعض حيتان المال والفساد المدعومين والمحتكرين لجميع القطاعات الاقتصادية في سوريا.
إجراءات روسية خوفاً على مناطق النفوذ الروسي
ومن جهة ثانية عبر بعض المحللون الاقتصاديون عن اعتقادهم بأن الانتعاش الأخير بقيمة الليرة السورية هو ثمار تدخل اقتصادي روسي، بالإضافة لجهود سياسية منها جولة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الخليج العربي، والتي شملت السعودية والكويت والإمارات و قطر، حيث أن الملف السوري كان من أبرز أسبابها، معتبرين بأن روسيا تحاول منع الاقتصاد السوري من الانهيار خوفاً على المصالح الروسية في سوريا، ولكن اعتبر محللون آخرون بأن الوضع الاقتصادي الروسي ليس أفضل بكثير من الوضع الاقتصادي في سوريا، خاصةً بعد التوترات الروسية الأمريكية الأخيرة، وبذلك فإن فرضية وجود تدخل اقتصادي روسي في سوريا ضعيفة، أما عن وجود دعم مالي عربي جاء بعد مباحثات وزير خارجية روسيا مع دول الخليج واعتباره سبب تحسن سعر الصرف، فقد اعتبر المحللون بأنه في حال أثمرت الجولة الروسية في الخليج، فإن العلاقات السياسية والاقتصادية سوف تحتاج وقت أطول بكثير لتعود وتنعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد السوري.
ما هو مستقبل الليرة السورية والدولار والذهب؟
إن أي تحسن في قيمة الليرة السورية غير مصحوب بإصلاحات حقيقية هو تحسن وهمي، ولا يمكن الاعتماد عليه باتخاذ قرار مالي أو اقتصادي، وغالباً فإن هذا التحسن لن يستمر طويلاً وبالتالي سوف يعود سعر الدولار للتحليق ومعه أسعار الذهب والسلع والخدمات، فالأزمة الاقتصادية مستمرة ولا يوجد أي مؤشرات تدل على اقتراب النهاية، ولذلك يبقى الذهب والدولار هم أفضل الأصول التي تحمي قيمة الأموال من التضخم في سوريا.