منذ اللحظة التي بدأت الحكومة السورية تحركاتها بهدف (حماية الاقتصاد والمستهلك) بدأت سلسلة من الإجراءات عنوانها العريض بأن التاجر هو سبب الأزمة. فاعتبرت الحكومة بأن التجار هم من ضاربوا على سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار. وهم من دفعوا الدولار لمستويات قياسية مرتفعة، وهم المسؤولون عن العجز في الميزان التجاري. وحتى المواد والسلع المفقودة من الأسواق هم من احتكروها وغيبوها ورفعوا أسعارها.
الكثير من الاتهامات التي تُحمل مسؤولية الانهيار الاقتصادي الحاصل في سوريا للتجار. وبالتالي فالحكومة (من وجهة نظر الحكومة) بريئة من كل ما جرى.
فهل فعلاً التجار هم السبب؟!
لنعرف الجواب على هذا السؤال يجب أن ندرس اتهامات الحكومة للتجار جيداً وعندها بالتأكيد سوف نعرف الإجابة.
من رفع سعر الدولار الأمريكي وخفض قيمة الليرة السورية؟
بدايةً من المعروف بأن الجهة المسؤولة عن ضبط سعر الصرف في أي دولة هي المصرف المركزي للدولة. فهو من يملك الكمية الأكبر من القطع الأجنبي وهو المتحكم بحجم السيولة النقدية وأسعار الفائدة وتتشارك مع المصرف المركزي وزارة المالية ووزارة الاقتصاد ووزارة التجارة الداخلية. وبالتالي في حال حصلت مشكلة في سعر الصرف فهذه هي الجهات التي يجب أن تعالج المشكلة وليس التجار. وقبل الإجابة على سؤال هل التجار هم من رفعوا سعر الصرف يجب أن نسأل:
من الذي طبع الليرة السورية بدون غطاء؟
ومن الذي منح قروض بعضها يصل إلى مليار ليرة سورية تم شراء الدولار بها وحتى اللحظة لم تتم متابعة قرض واحد منها؟
من الذي منح الاستثناءات وساعد بعض الأشخاص على احتكار قطاعات صناعية وتجارية بأكملها لسنوات مسبباً إلغاء أي نوع من أنواع المنافسة؟
من السبب بهجرة المستثمرين وأصحاب الأموال إلى خارج سوريا؟
الكثير من الأسئلة بالإمكان طرحها وكلها تجيب بوضوح عن سؤال من الذي رفع سعر الدولار ومن الذي دفعه لمستويات قياسية.
هل التجار هم من سبب العجز بالميزان التجاري؟
عندما يكون حجم الواردات لأي دولة أكبر من حجم الصادرات يصبح لدى الدولة عجز بالميزان التجاري. والذي يساوي الفرق بين حجم الواردات وحجم الصادرات. ومن وظائف الحكومة في أي دولة زيادة صادرات الدولة وتقليل وارداتها عن طريق دعم الاستثمارات التي تمنحها اكتفاء ذاتي (هذا عمل الحكومة في جميع دول العالم وليس عمل التجار). وبالتالي عندما نتحدث عن سوريا يجب أن نسأل من السبب بأن الواردات في سوريا أكثر من الصادرات.
أليست هذه نتيجة منطقية لعدم دعم الاستثمار في سوريا وعدم تسهيل الإجراءات المالية والاقتصادية؟
قبل أن تتهم الحكومة التجار بأنهم سبب العجز بالميزان التجاري. يجب أن تخبرنا الحكومة ما هي المشاريع الإنتاجية التي دعمتها أو أنشأتها في السنوات الماضية؟
فبنظرة بسيطة على مجريات الاقتصاد في سوريا نعرف بأن من عرقل الاستثمارات والمشاريع الإنتاجية هو من سبب العجز بالميزان التجاري وبالتأكيد ليسوا التجار هم من عرقلوا الاستثمارات والمشاريع الإنتاجية.
من الذي ساعد باحتكار أو إخفاء مواد أو سلع أو ساهم برفع أسعارها بالأسواق السورية؟
التجار والمستوردون هم من يحضرون المواد والسلع إلى الأسواق. ولا يوجد تاجر يقوم بإحضار سلعة وتخزينها في حين يوجد عليها طلب. فالتجار يقومون بتخزين السلع والمنتجات في حال انتهى موسمها فقط. (مثل تخزين الملابس الشتوية عندما يأتي فصل الصيف). أما سبب غياب بعض المواد والسلع عن الأسواق السورية هو تحديد حجم السحوبات المصرفية وتحديد سقف المبلغ المسموح بنقله بين المحافظات بالإضافة لعدة إجراءات كانت السبب بعرقلة حركة السيولة النقدية وبالتالي عرقلة شراء البضائع وعرضها في الأسواق.
وبخصوص المواد والسلع المحتكرة فبالتأكيد ليسوا التجار هم من يملكون القدرة على منح ترخيص استيراد مادة أو سلعة معينة لشخص واحد حصراً.
أما ارتفاع أسعار المواد والسلع. فهذا أمر مرتبط بسعر الصرف بشكل مباشر. كما أن الأسعار في سوريا ليست مرتفعة أكثر من غيرها من الدول. (إلا بما يخص المواد والسلع التي تخضع لضريبة جمركية عالية وهذه الضريبة هي السبب بارتفاع السعر) بينما في الواقع القدرة الشرائية للمواطن السوري هي المنخفضة والمهترئة وبالمقارنة معها تبدو الأسعار مرتفعة.
الجدير بالذكر بأن الحكومة كانت دائماً تطالب التجار بتخفيض الأسعار ولكن هل الحكومة فعلت هذا؟!
هل الأسعار التي رفعتها الحكومة مثل سعر الاسمنت أو غيره من المواد قامت بتخفيضها؟
من المسؤول عن التعامل مع الأزمة الاقتصادية؟
ما وصلت إليه سوريا سببه الفساد والأخطاء التي تراكمت على مدى عقود من السنين. تم خلالها استنزاف خزينة الدولة بشكل تام وإدارة مواردها بشكل سيء الأمر الذي أدى للانهيار الاقتصادي الحاصل حالياً. فالتجار والمستوردون والمنتجون والصناعيون هم أركان الحركة الاقتصادية في أي دولة. فهل من المنطقي أن تحمل الدول التجار مسؤولية الأزمات المالية والاقتصادية التي تقع بها؟!
عندما تواجه أي حكومة أزمة اقتصادية تبدأ معالجتها من خلال كسب ود المستثمرين لتشجيعهم على الاستثمار ودعم الاقتصاد. بالإضافة لمعرفة أسباب الأزمة بهدف معالجتها. أما أن يتم تحميل المسؤولية للتجار فهذا بأبسط الأحوال (هروب من المسؤولية).
هل هكذا تتم حماية المستهلك؟
من الغريب الاعتقاد بأن حماية المستهلك تكون بخنق التجارة ومحاربة التجار. فعندما تكون القوة الشرائية للمستهلك شبه معدومة والخيارات التي أمامه محدودة جداً تكون حماية المستهلك برفع قوته الشرائية وتعزيز الأسواق بالمزيد من الخيارات لخلق حالة من المنافسة العادلة التي تنتج عروض كثير وتخفيض بالأسعار. وبدلاً من التفكير بحماية المستهلك عن طريق قوانين تخنق التجارة والاقتصاد يجب العمل على دعم المستهلك بحيث يصبح صاحب اقتصاد مستقل، وهذا يتحقق بتشجيعه ليبدأ مشروعه الخاص بحيث يحقق من خلاله استقلاله المادي.
انخفاض دخل الفرد والقوانين الخانقة للاقتصاد التي رفعت من معدل هجرة المستثمرين وشجعت الاحتكار على مدى عقود هي الأسباب الرئيسية لأزمة المستهلك. وحماية المستهلك تبدأ بمعالجة هذه الأسباب.
ليسوا التجار هم السبب بالأزمة الاقتصادية الحاصلة في سوريا، بل هم من المتضررين من هذه الأزمة. وفي حال استمرت الحكومة بتحميل التجار مسؤولية الانهيار الاقتصادي الحاصل، فلن تتمكن من حل الأزمة الاقتصادية وبالتالي حدوث المزيد من الانهيار الاقتصادي في المستقبل.